فصل: تفسير الآيات (17- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (16):

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)}
{مَّا استطعتم} جهدكم ووسعكم، أي: ابذلوا فيها استطاعتكم {واسمعوا} ما توعظون به {وَأَطِيعُواْ} فيما تأمرون به وتنهون عنه {وَأَنْفِقُواْ} في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها {خَيْراً لاِنفُسِكُمْ} نصب بمحذوف، تقديره: ائتوا خيراً لأنفسكم، وافعلوا ما هو خير لها وأنفع؛ وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر، وبيان لأنّ هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وما أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا.

.تفسير الآيات (17- 18):

{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
وذكرُ القرض: تلطف في الاستدعاء {يضاعفه لَكُمْ} يكتب لكم بالواحدة عشراً، أو سبعمائة إلى ما شاء من الزيادة. وقرئ: {يضعفه} {شَكُورٌ} مجاز، أي: يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب، وكذلك {حَلِيمٌ} يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسيء، فلا يعاجلكم بالعقاب مع كثرة ذنوبكم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة».

.سورة الطلاق:

.تفسير الآيات (1- 3):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}
خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب؛ لأنّ النبي إمام أمّته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، إظهاراً لتقدّمه واعتباراً لترؤسه، وأنه مدرهُ قومه ولسانهم، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه، فكان هو وحده في حكم كلهم، وسادّاً مسدّ جميعهم. ومعنى {إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} إذا أردتم تطليقهنّ وهممتم به على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه: كقوله عليه السلام: «من قتل قتيلاً فله سلبه» ومنه كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فطلقوهن مستقبلات لعدتهن، كقولك: أتيته لليلة بقيت من المحرم، أي: مستقبلاً لها. وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: في قُبلِ عدتهنّ، وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأوّل من أقرائها، فقد طلقت مستقبلة لعدتها. والمراد: أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه، ثم يخلين حتى تنقضى عدّتهن. وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعده من الندم، ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة، ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدّة، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثاً في ثلاثة أطهار. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو متفرقة. وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحد في طهر واحد، فأما مفرقاً في الأطهار فلا؛ لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض: «ما هكذا أمرك الله، إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً، وتطلقها لكل قرء تطليقة» وروى أنه قال لعمر: «مر ابنك فليراجعها، ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر، ثم ليطلقها إن شاء؛ فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء». وعند الشافعي رضي الله عنه: لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح. فما لك تراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت؛ وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت؛ والشافعي يراعي الوقت وحده.
فإن قلت: هل يقع الطلاق المخالف للسنة؟ قلت: نعم، وهو آثم؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه، فقال لا «أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم» وفي حديث ابن عمر أنه قال: يا رسول الله، أرأيت لو طلقتها ثلاثاً، فقال له:
«إذن عصيت وبانت منك امرأتك» وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثاً إلا أوجعه ضرباً. وأجاز ذلك عليه.
وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين: أنّ من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلث لم يقع، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف.
فإن قلت: كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل وغير المدخول بها؟ قلت: الصغيرة والآيسة والحامل كلهن عند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر، وخالفما محمد وزفر في الحامل فقالا: لا تطلق للسنة إلا واحدة. وأما غير المدخول بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة، ولا يراعي الوقت.
فإن قلت: هل يكره أن تطلق المدخول بها واحدة بائنة؟ قلت: اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا. والظاهر الكراهة.
فإن قلت: قوله إذا طلقتم النساء عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء والآيسات والصغائر والحوامل، فكيف صحّ تخصيصه بذوات الأقراء المدخول بهن؟ قلت: لا عموم ثم ولا خصوص، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن، فجاز أن يراد بالنساء هذاوذاك، فلما قيل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} علم أنه أطلق على بعضهنّ وهنّ المدخول بهن من المعتدات بالحيض {وَأَحْصُواْ العدة} واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن، {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ} حتى تنقضي عدتهنّ {مِن بُيُوتِهِنَّ} من مساكنهنّ التي يسكنها قبل العدة، وهي بيوت الأزواج؛ وأضيفت إليهنّ لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى.
فإن قلت: ما معنى الجمع بين إخراجهم أو خروجهن؟ قلت: معنى الإخراج: أن لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن، أو لحاجة لهم إلى المساكن، وأن لا يأذنوا لهنّ في الخروج إذا طلبن ذلك، إيذاناً بأنّ إذنهم لا أثر له في رفع الحظر، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} قرئ: بفتح للياء وكسرها. قيل: هي الزنا، يعني إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن وقيل: إلا أن يطلقن على النشوز، والنشوز يسقط حقهن في السكنى. وقيل: إلا أن يبذون فيحل إخراجهنّ لبذائهنّ؛ وتؤكده قراءة أبي {إلا أن يفحش عليكم} وقيل: خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه. الأمر الذي يحدثه الله: أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها. ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها. والمعنى: فطلقوهنّ لعدتهن وأحصوا العدة، لعلكم ترغبون وتندمون فتراجعون {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} وهو آخر العدة وشارفته، فأنتم بالخيار: إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتقاء الضرار وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلاً للعدة عليها وتعذيباً لها {وَأَشْهِدُواْ} يعني عند الرجعة والفرقة جميعاً.
وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله: {وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وعند الشافعي: هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة. وقيل: فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد، وأن لا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث {مِّنكُمْ} قال الحسن: من المسلمين.
وعن قتادة: من أحراركم {لِلَّهِ} لوجهه خالصاً، وذلك أن تقيموها لا للشهود له ولا للمشهود عليه، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم، كقوله تعالى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء: 135] أي: {ذَلِكُمْ} الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط، {يُوعَظُ بِهِ... وَمَن يَتَّقِ الله} يجوز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة، وطريقه الأحسن والأبعد من الندم، ويكون المعنى: ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد {يَجْعَلْ} الله {لَّهُ مَخْرَجاً} مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق، ويفرج عنه وينفس ويعطه الخلاص {وَيَرْزُقْهُ} من وجه لا يخطره بباله ولا يحتسبه إن أوفى المهر وأدى الحقوق والنفقات وقل ماله.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه سئل عمن طلق ثلاثاً أو ألفاً، هل له من مخرج؟ فتلاها» وعن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال: لم تتق الله فلم يجعل لك مخرجا، بانت منك بثلاث والزيادة إثم في عنقك. ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} يعني: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ومخلصاً من غموم الدنيا والآخرة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قرأها فقال: «مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة» وقال عليه السلام: «إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم {وَمَن يَتَّقِ الله} فما زال يقرؤها ويعيدها» وروى: أنّ عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً. فأتى رسول الله فقال: أسر ابني وشكا إليه الفاقة؛ فقال: ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، ففعل فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدو فاستاقها، فنزلت هذه الآية {بالغ أَمْرِهِ} أي يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب. وقرئ: {بالغ أمره} بالإضافة {وبالغ أمره} بالرفع، أيّ: نافذ أمره وقرأ المفضل: {بالغاً أمره}، على أنّ قوله: {قَدْ جَعَلَ الله} خبر إن، وبالغاً حال {قَدْراً} تقديراً وتوقيتاً. وهذا بيان لوجوب التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه؛ لأنه إذا علم أنّ كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته: لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل.

.تفسير الآيات (4- 5):

{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)}
روي أن ناساً قالوا: قد عرفنا عدة ذوات الأقراء، فما عدة اللائي لا يحضن؛ فنزلت: فمعنى {إِنِ ارتبتم}: إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهنّ، وقيل: إن ارتبتم في ذم البالغات مبلغ اليأس وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين، أهو دم حيض أو استحاضة؟ {فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ} وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها، فغير المرتاب بها أولى بذلك {والائى لَمْ يَحِضْنَ} هن الصغائر. والمعنى: فعدتهن ثلاثة أشهر، فحذف لدلالة المذكور عليه. اللفظ مطلق في أولات الأحمال، فاشتمل على المطلقات والمتوفى عنهن. وكان ابن مسعود وأبيّ وأبو هريرة وغيرهم لا يفرقون.
وعن علي وابن عباس: عدة الحامل المتوفى عنها أبعد الأجلين.
وعن عبد الله: من شاء لاعنته أنّ سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في البقرة، يعني: أنّ هذا اللفظ مطلق في الحوامل. وروت أم سلمة: أنّ سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بليال، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: «قد حللت فانكحي» {يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} ييسر له من أمره ويحلل له من عقده بسبب التقوى {ذَلِكَ أَمْرُ الله} يريد ما علم من حكم هؤلاء المعتدات. والمعنى: ومن يتق الله في العمل بما أنزل الله من هذه الأحكام وحافظ على الحقوق الواجبة عليه مما ذكر من الإسكان وترك الضرار والنفقة على الحوامل وإيتاء أجر المرضعات وغير ذلك: استوجب تكفير السيئات والأجر العظيم.

.تفسير الآيات (6- 7):

{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}
{أَسْكِنُوهُنَّ} وما بعده: بيان لما شرط من التقوى في قوله: {وَمَن يَتَّقِ الله} كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: اسكنوهن.
فإن قلت: من في {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ما هي؟ قلت: هي من التبعيضية مبعضها محذوف معناه: أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم، أي بعض مكان سكناكم، كقوله تعالى: {يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم} [النور: 30] أي بعض أبصارهم. قال قتادة: إن لم يكن إلا بيت واحد، فأسكنها في بعض جوانبه.
فإن قلت: فقوله: {من وجدكم}؟ قلت: هو عطف بيان لقوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} وتفسير له، كأنه قيل: أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه. والوجد: الوسع والطاقة. وقرئ بالحركات الثلاث. والسكنى والنفقة: واجبتان لكل مطلقة. وعند مالك والشافعي: ليس للمبتوتة إلا السكنى ولا نفقة لها.
وعن الحسن وحماد: لا نفقة لها ولا سكنى؛ لحديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها أبتّ طلاقها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سكنى لك ولا نفقة».
وعن عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: «لها السكنى والنفقة» {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ} ولا تستعملوا معهن الضرار {لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ} في المسكن ببعض الأسباب: من إنزال من لا يوافقهن، أو يشغل مكانهن، أو غير ذلك، حتى تضطروهن إلى الخروج. وقيل: هو أن يراجعها إذا بقي من عدتها يومان ليضيق عليها أمرها. وقيل: هو أن يلجئها إلى أن تفتدي منه.
فإن قلت: فإذا كانت كل مطلقة عندكم تجب لها النفقة، فما فائدة الشرط في قوله: {وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ} قلت: فائدته أن مدة الحمل ربما طالت فظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحائل، فنفى ذلك الوهم.
فإن قلت: فما تقول في الحامل المتوفى عنها؟ قلت: مختلف فيها؛ فأكثرهم على أنه لا نفقة لها، لوقوع الإجماع على أنّ من أجبر الرجل على النفقة عليه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه من ماله بعد موته، فكذلك الحامل.
وعن علي وعبد الله وجماعة: أنهم أوجبوا نفقتها {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} يعني هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولداً من غيرهنّ أو منهنّ بعد انقطاع عصمة الزوجية {فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} حكمهن في ذلك حكم الأظار، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم الاستئجار إذا كان الولد منهم ما لم يبنّ. ويجوز عند الشافعي. الائتمار بمعنى التآمر، كالاشتوار بمعنى التشاور. يقال: ائتمر القوم وتآمروا، إذا أمر بعضهم بعضاً.
والمعنى: وليأمر بعضكم بعضاً، والخطاب للآباء والأمهات {بِمَعْرُوفٍ} بجميل وهو المسامحة، وأن لا يماكس الأب ولا تعاسر الأم؛ لأنه ولدهما معا، وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه؛ وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى: سيقضيها غيرك، تريد: لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم، وقوله: {لَهُ} أي للأب، أي: سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه {لِيُنفِقْ} كل واحد من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه يريد: ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات، كما قال: {وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} [البقرة: 236] وقرئ: {لينفق} بالنصب، أي شرعنا ذلك لينفق.
وقرأ ابن أبي عبلة {قدّر} {سَيَجْعَلُ الله} موعد لفقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم، أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقصروا.